الشيخ حسين إسماعيل : الإسلام يستوعب طرح كل الخلافات بين المسلمين ويدعوهم إلى الشورى

img_0008

  يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (  وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)) [ آل عِمرَان: 144-145]

    لا يختصّ القرآن الكريم بعصر نزوله بل هو لكل العصور والأزمان بما فيه عصرنا الحاضر، لأن سنة الحياة قضت بان تتكرر فيها المناسبات بشكل دوري على امتداد التاريخ البشري، فهناك تشابه بين ظروف البشر على اختلاف عصورهم، والآية المتقدمة هي من آيات سورة آلِ عمران الشريفة التي نزلت عقب احداث معركة أُحد، وهي تشير إلى سلسلة أمور هامة، ونشير إليها من خلال العناوين التالية:

نبوة محمد صلوات الله عليه هي لكلّ العصور التي تلت بعثته

     ختم الله تعالى النبوة ببعثة محمد بن عبد الله (ص) فليس من بعده أنبياء. قال تعالى:( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ) فمحمد هو رسول الله إليكم أيها الناس، سواء كُنْتُمْ في زمن حياته أم كُنْتُمْ في أي عصر من العصور بعد رحيله إلى قيام الساعة، ومعنى ذلك أن يجدد المسلمون مشاعر الولاء والبيعة والإيمان ببعثة النبي محمد، ويعيش الجميع شعوراً واحداً حياً ومتفاعلاً اتجاه هذه البعثة الشريفة.

     ونحن في القرن الواحد والعشرين بحسب التقويم الميلادي، وفي عام الألف وأربعمئة وثمانٍ وثلاثين من هجرة النبي (ص) ، فلا بُدَّ من أن نشاطر المسلمين الأوائل الشعور نفسه اتجاه بعثة النبي محمد، ونشعر كأنه بعث إلينا في عصرنا الحاضر برسالة الإسلام، ونعيش مع هذه الرسالة التي حَمَلَها إلينا صلوات الله عليه بكل وعينا، ونتحمل مسؤوليتها من دون أي تردد أو تهاون، ونؤمن بأن الرسول الأكرم هو آخر الأنبياء ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) فليس من بعده أنبياء، والأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى قد أرسلهم من قبله، وعلينا أن نعيش في عصرنا الحاضر مع نبينا محمد  (ص) كما عاش معه المسلمون الأوائل فنحمل مبادئه وتعاليمه وندافع عنها كما فعلوا رضوان الله عليهم.

الإسلام يرفض عبادة الأشخاص

        الإسلام كما تشير الآية المتقدمة يرفض تقديس الأشخاص لشخصهم بل التقديس هو للدور الذي يحملونه، ومن هنا قال تعالى: (  أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) هذا الشطر من الآية فيه تهديد وتوبيخ للمسلمين، الذين كانوا مع النبي في معركة أحد ولما أصيب النبي في رأسه تصوروا أنه قتل، واعتبروا أنّ الإسلام انتهى بقتله فهددهم الله تعالى بأن الإسلام رسالة لا يرتبط مصيرها بحياة النبي وشخصه حتى تنتهي بموته، بل الإسلام هو رسالة مستمرة وأنتم مسؤولون عنها أمام الله تعالى.

    ونقرأ أيضاً في قوله تعالى: ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )  إنه نداء إِلَهِيّ موجه إلى كل المسلمين عبر العصور بما فيه عصرنا الحاضر، يدعونا الله تعالى فيه إلى التمسّك بالإسلام وبسنّة النبي من دون أن نتوقف عند قضية مرور الزمن على رحيل النبي (ص)، فكما خاطب الله تعالى المسلمين في معركة أحد وبخاصةٍ الذين فكروا بالارتداد عن الإسلام والعودة إلى الكفر، واعتبروا أن الإسلام ينتهي بموت النبي فإنهم مخطئون لأن الإسلام هو لله تعالى لا للنبي، ودور النبي هو حمل الرسالة وتبليغها إلى الناس وموته لا يعني أن الرسالة انتهى دورها، فدورنا مرتبط بالله تعالى وحيث لا موت لله تعالى ولا نهاية لوجوده أو بداية له فرسالته خالدة، ومن هذا المنطلق نرى أنّ الدين هو لله سواء بقي النبي حيّاً بين المسلمين أو رحل عنهم، نعم مهمة الأنبياء هو تبليغ الرسالة.

أزمة المسلمين وتقديس الأشخاص

     في هذه الآية ولا سيما في الشطر المتقدم قوله تعالى: (  أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) هو خطاب موجّه إلى أبناء المسلمين، وبخاصةٍ الذين يتصدّون لمهمة التبليغ وقيادة الرسالة والدفاع عنها ألا يقعوا في تقديس الأشخاص لأن الإسلام باقٍ ومستمرٌ بإِرادة الله تعالى، وليس بحياة الدعاة أو المبلّغين أو القيادات لأن هذه النظرة لها سلبياتها على وعي المسلمين، وتبعث على الشعور بالإحباط والغُلوّ، وسيعتبر الناس أن رحيل القيادات يُنذِر بعدم وجود قيادات جديدة وبديلة.

إن ما أراد الله تعالى من المسلمين هو أن يؤمنوا بأن هناك رعاية إِلَهِيّة تتحرك لحفظ الإسلام، وكما وفقت هذه الرعاية الإِلَهِيّة وهيأت قيادات في العصور الماضية فإنها أيضاً ستهيئ قيادات مستقبلية، ثم إنه أيضاً من مخاطر الغُلوّ في النظرة إلى القيادات الإسلامية أنه يدعو إلى إضعاف القيادات المستقبلية، فالجمود يهدّد مصير الرسالة، فالإسلام هو دائماً يتحرك بقوة نحو المستقبل لتهيئة قيادات جديدة.

الجماعات الإسلامية المتذبذبة لا تشكل خطراً على مصير الرسالة

    تحدث الله تعالى عن أمر رابع بقوله: ( وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ) . هناك جماعات تنتسب إلى الإسلام ظاهرياً وشكلياً، وللأسف يتأثر إسلامهم بظروف المسلمين المادية فإذا تعرضت إلى الاهتزاز اهتزت علاقتهم بالإسلام، والله تعالى أخبر بأن هؤلاء لن يضروا الله شيئاً، ولن يشكلوا خطراً على مصير الرسالة، فالرسالة مستمرة بإِرادة الله ومشيئته عبر المخلصين، وفي ذلك إشارة إلى أن الساحة الإسلامية لا تخلو من جماعات الإسلام اللامستقر، ثم إنه ينبغي للمخلصين الثابتين ألاَّ يتأثروا بتحرّك هذه الجماعات والله تعالى يرعى أي مسيرة مخلصة في أهدافها وتحركها.

الجماعات الإسلامية المخلصة والتأييد الإلَهِيّ لها

     هناك تكامل في الخطاب الإِلَهِيّ في القرآن الكريم حيث يعالج الموضوعات التي يتحدث عنها معالجة كاملة، فلا يتحدث عن جزء منها ويترك الجزء الآخر، فالله تعالى تحدث عن الذين تخلفوا عن نصرة النبي في معركة أحد ووبّخهم وهدّدهم، لأنهم لما رأوا أنَّ النصر المادي يميل لمصلحة الكفار تركوا النبي في ساحة المعركة وحده مع المجاهدين المخلصين، والله تعالى أشار إلى هؤلاء الذين صمدوا ولم يهربوا من القتل في سبيل الله، فقال تعالى: ( وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) . ومجازاة الله للجماعات الإسلامية التي تبقى ثابتة على التمسك بالإسلام في أوقات الشدة، بأن يؤيدها تعالى وينصرها ولا يتخلّى عنها ويحوّل ضعفها إلى قوة وفقرها إلى غنى، فإنه تعالى بيده أسباب النصر والقوة لكنه تعالى يمتحن عباده في ساحة الدنيا حتى يميز المؤمن من غيره، كما أن الجزاء الإِلَهِيّ للمؤمنين المخلصين يشمل الدنيا والآخرة.

الفرار من الجهاد لا يزيد في الأجل

    أشارت الآية الثانية إلى مشكلة الذين يبتعدون عن خط الجهاد في ساحة الصراع مع الأعداء، ويحسبون أنه قد يؤدي إلى قتلهم والقتل لا يرغب فيه أحد، فإنهم يقيسون حياتهم بالمقاييس الدنيوية، لذا فإنَّ أصحاب هذه النظرة يهربون من ساحات الجهاد حفاظا على حياتهم، وإلى هؤلاء أشار الله تعالى بقوله: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ  ) . فالهروب من الجهاد لا يزيد في أجل الإنسان، كما أن الدخول في ساحات الجهاد لا ينقص من الأجل، فلكل إنسان أجل يموت فيه.

    ثم إن بعض الناس قد يقول إنّ احتمال قتل الإنسان في ساحات الجهاد أكثر من احتمال موته في غير ساحات الجهاد، هذا صحيح نسبياً لا مطلقاً، ومعادلة الموت والحياة لا بُدّ من أن تجري بطريقة أخرى، وهي أن الموت لا محالة حاصل لأي إنسان، والموت للبشر سُنَّة إِلَهِيّة والله تعالى لم يكتب الخلد لأحد في هذه الحياة الدنيا بما فيهم الأنبياء والرسل الذين هم أحب الخلق والعباد إلى الله تعالى (  وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ) [ الأنبياء: ٣٤].

     والإنسان البصير ينظر إلى الموت على أنه محطة لا مفرّ منها ولامهرب، يقول الله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) [ آل عمران: ١٨٥]  وينصبّ تفكيره إلى ما بعد الموت لا على الموت نفسه، فهناك ما يجب الوقوف عليه لأن ما بعد الموت ليس إلَّا النعيم أو الشقاء، ويعتبر الإنسان البصير أن قيمة الحياة الدنيوية تكمن بأن تكون متحركة في سبيل تحقيق الحياة السعيدة بعد الممات، وهذا لا يتحقق إلَّا بتحصيل طاعة الله وتقواه في الحياة الدنيا، وما قيمة الحياة الدنيوية إذا كانت تؤدي بصاحبها إلى الدخول في الشقاء والعذاب.

     لذا قد تقتضي مصلحة الإنسان التضحية بحياته الدنيوية، وهذا الأمر لا يقدم عليه إلَّا من عاش حقيقة الإيمان واليقين بالله تعالى، لذا كان المجاهدون على درجة كبيرة من الإيمان، ومن هنا يحتاج الجهاد إلى نفوس مؤمنة، لا تهاب الموت أو القتل في سبيل الله قال تعالى: ( كِتَابًا مُؤَجَّلًا ) فلكل إنسان كتاب يتحدد فيه أجله ونهاية حياته.

دور الإرادة في تنمية الإيمان وتهذيب النفس

      ثم تحدث الله تعالى في الآية الثانية عن أهمية الإِرادة ودورها في النفس البشرية على صعيد العلاقة مع الله تعالى، فالله تعالى ينظر إلى نفس الإنسان وإلى باطنها وما تحمله في داخلها من نيّات وأهداف ورغبات تجاه العلاقة معه، فإذا وجد الله تعالى أن الإنسان يحمل في نفسه إِرادة السعي إلى تحصيل رضا الله تعالى والتقرّب منه فإنه تبارك يوفقه إلى تحقيقها ويزيده فضلاً ورعاية في ذلك، بينما إذا وجد الله تعالى أن عبده مُعرِضٌ عنه ولا يحمل في نفسه إِرادة السعي لتحقيق رضاه تعالى وهو مقبل بكل باطنِهُ على الدنيا، فإنه تعالى يوفقه للحصول على رغباته الدنيوية، ويحرمه التوفيق من السعي لآخرة مليئة بالنعم والرضوان. قال تعالى: ( وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) .

     وهذا الشطر الشريف من الآية يدعونا إلى تهذيب أنفسنا وتربيتها وترويضها على حمل الإِرادات التي توافق رضا الله تعالى، والمقصود بالإِرادات هنا الرغبات النفسية التي يسعى صاحبها ويريد تحقيقها، لذا علينا أن نحذر أن نحمل في أنفسنا رغبات محرّمة لا يريدها الله تعالى، ولا أحد يقول في نفسه إنها مجرّد رغبة نفسية لا تقدم ولا تؤخر، فإنه تعالى سيؤتي كل نفس رغباتها.فمن كانت رغباته متعلقة بطاعة الله تعالى فإنه يوفقه اليها، ومن كانت رغباته النفسية متعلقة بالمعاصي والسيئات فإنه يوفقه أيضاً اليها. وختم الله تعالى الآية الثانية واعداً بأنه سيجزي الشَّاكِرِين له والراغبين في مرضاته، قال تعالى: ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) والآية الثانية مرتبطة بالآية الأولى، ومحور الآية الأولى هو الدعوى إلى التمسّك بخط النبي محمد (ص).

الإسلام يتسع لطرح كل الخلافات بين المسلمين ويدعوهم إلى الشورى فيما بينهم

     شكّل رحيل النبي (ص) عن أمته في الثامن والعشرين من شهر صفر من السنة العاشرة للهجرة ألماً كبيراً، ولكن الله تعالى هيّأ المسلمين لمواجهة أعباء هذا الرحيل الذي شكّل فاجعة ليس للمسلمين في عصر رحيله، بل لنا نحن أيضاً في هذا العصر. فحياة النبي تشكّل نعمة إِلَهِيّة لأهل الأرض لكن الله تعالى قضى وقدر أن تشمل سُنَّة الموت حياة الرسول الأكرم، ولم يكن تعالى ليقبض رسوله إليه إلَّا بعد أن أدّى هذا الرسول صلوات الله عليه أمانة تبليغ الرسالة بتمامهما وكمالها.

     وعلينا نحن المسلمين أن نستوعب قضية رحيل النبي، لأنها مسؤولية كبرى وعلينا أن نتحمّل هذه المسؤولية بصدق وإخلاص حتى نستطيع أن نحفظ الرسالة. لقد عاش المسلمون أزمة بعد رحيل النبي أوجدت شقاقاً فيما بينهم حول من يخلفه في قيادة الأمة، وما زال هذا الخلاف قائماً إلى الآن، وشكل ساحة يعمل الأعداء على استغلالها وزرع الفتن فيها بين المسلمين. ولكن ما حصل لا يبرر أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، ثم إن الإسلام يستوعب طرح كل الخلافات بين المسلمين ويدعوهم إلى الشورى بينهم، وأن يسمع بعضهم لبعض وأن يحترموا نظرة كل فريق فيما يخصه حول قضية الإمامة، ويعالجها من خلال الأُطر العلمية. فالإسلام للجميع ويجب أن يكون جميع المسلمين للإسلام وما يجمعنا نحن المسلمين هو أكثر ممّا يفرّقنا.

      وفي الواقع خلافات المسلمين لا تفرض عليهم الصدام، وأي صدام يحصل فهو نتيجة الاستغلال السياسي لها، ونؤكد مجدداً أنه لا بُدَّ من احترام الخلافات، ورفض التعيير بينهم واستفزاز كل طرف للآخر. ولا يعني حديثنا هذا أنّه دعوة إلى إلغاء التعددية المذهبية وجعلها مذهباً واحداً، بل المطلوب الانفتاح عليها وعدم جعلها أساساً في علاقات المسلمين بعضهم ببعض ورفض تسييسها.

     ومن المؤسف أننا نجد أن العلاقات بين المسلمين تسير من سيّئ إلى أسوأ، بينما علاقاتهم مع غيرهم يسودها الهدوء والتفاهم، فالإسلام يدعو إلى الحوار مع غير المسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن، فمن ناحية أولى يدعو المسلمين إلى الحوار فيما بينهم.

إمام مسجد السيد عبد الحسين شرف الدين – قده – مدينة صور

الشيخ حسين إسماعيل